كتب – احمد لطفي
الأستاذ فؤاد، مدرس الدين، كما يقولون هذه الأيام. كان وجهُه نَكِدًا طُوال الوقتِ وملامِحُه مُنزعِجَة ومُزْعِجَة وصدرُه ضيِّقٌ، وكأنه يعجزُ عن أن يتَسِع، يكادُ لايطِيق الدنيا.
كان يُدرِسُنا مادة التربية الدينية في الصفِ الأول أو الثاني الإعدادي لا أتذكر بالضبط، كان الرجلُ ضعيفَ البصرِ لدرجةٍ تحسَبهُ معها كفيفًا، لكنه كان قويُّ الشخصية، شديدُ الشكِيمة، وكان على خُلقٍ عظيم، وعِلمٍ واسعٍ وصوتٍ يُرتِل به القُرآن ترتيلًا جميلًا يأخذُ الألبابَ قبل أن يعجِبُ الآذان، لذلك كانت المدرسةُ تجمعُ أكثر من فصلٍ في حصةٍ واحدة ربما توفيرًا لجُهدِه أو مُراعاة لسِنه وحالتِه، لا أدري، كل ما أتذكرهُ أن الفصلَ كان يزدحِمُ بنا ويضِيقُ علينا، وأن عَمَّ أحمد “الفراش” كان يقفُ خلفَ النافذة المُطلة على المَمَر ليستمع معنا ويُرتِل خلفَه بينما “مسز بركات” مديرةُ القسمِ تُصيحُ في وجهِه: ” يلا يا عَمَّ أحمد رُوح شُوف شُغلك.
الأستاذ فؤاد كان يُحِبُ أن يُحَفِّظِنَا جماعة وأن يُنادي علينا فُرادى ليسْمعَ مِنَا ويُحَفِّظِنَا وهو جالسٌ على كرسيه في الفصل. لم أرهُ مُبتسِمًا أبدًا ولم يَهْمِسُ أو يُهَدِّأ من صوتِه الجَهُوريّ يومًا، وكان يكْرهُ أن نسْألهُ عن معنى الكلماتِ، ويشْخُط فينا: إنتوا تحفظوا وبس.. وبعدبن لما تكبروا وتبقوا تفلحوا – ده إن فلحتوا – تبقوا تفهموا يا حمير!
الحقيقة أن أحدًا مِنَا لم يعترض أو يشكُوا أبدًا من إهانة الأستاذ فؤاد ولا فَكَّر أيٌ من أولياءِ أمُورنا أن يشكُو، ربما احترامًا للرجُلِ وتقديرًا لعلمِه، ثم أننا كُنا على الرغمِ من كُلِ هذا نُحبه ونحترمُه مثل باقي مُعلمينا وأساتذتِنا ونشعُر نحوهُم بامتنانٍ عميقٍ.
انتهينِّا من المرحلةِ الإعدادية وانتقلنا للثانوي ونقلني أبي من مدرسةِ اللغات لأخرى حكومية، ففي ذلك الوقتِ كان التعليمُ الأجنبي للبنين في المرحلة الثانوية يعتبر من أماراتِ أو علاماتِ “الدَلْع” والميُوعة، فكان معظم الآباءِ غالبِا ما يكتفُون بهذا القدرِ من التعليم الأجنبي بالنسبة للأولاد، بينما يُفضِلون استمرارَ البناتِ في مدارسِ اللغاتِ وهو ما حَدَث مع أخْتيِّي.
المُهم اننهت المرحلةُ الثانوية والتحقنا بالجامعة وتفرّقَت بِنَا السُبُل – أنا وزملائي – وكُنَا كلما التقينا مُصادفة نتذكرُ أستاذَنا ونسأل بعضَنا: ياترى كبرنا خلاص “وبقينا بنفهم” كما كان يقول الأستاذ فؤاد؟ المُشكِلة أن الحمير حتى لو كبُرت فإنها لاتفْهَم، هي فقط تَحْمِلُ أسْفارًا.
إلى الآن لم أجد إجابةً معقُولة تُقنعُني للسؤال: ماذا كان الأستاذ فؤاد يستَفِيد من تحْفِيظ الحمير كلامُ الله؟ مش عارف! الله يرحمه ويُحسن إليه، كان – مع كلِ ذلك – رجُلًا عظيمًا.